هيروشيما وناغازاكي بين العلم والإبادة .


بقلم :  د. سائر بصمه جيالتدقيق اللغوي: خيرية الألمعي.


في السادس من أغسطس/آب عام 2014 تصادف الذكرى التاسعة والستين لتفجير أول- ونأمل أن تكون آخر- قنبلة نووية صنعها الإنسان.
بدأت الفكرة من رسالة صغيرة وجهها ألبرت أينشتاين عام 1939 إلى الرئيس الأمريكي آنذاك فرانكلين روزفلت؛ ليفتتح بها عصر القنبلة النووية. وقد جاء في نص هذه الرسالة: "السيدَ الرئيس: اطلعتُ شخصيًّا على الأبحاث الأخيرة لفيرمي وزيلارد، وإنها لتبعث على الأمل في أن عنصر اليورانيوم قد يتحول في المستقبل القريب إلى مصدر جديد ومهم للطاقة؛ فالظاهرة المكتَشفة ستؤدي إلى تركيب قنابل من نوع جديد، يؤدي انفجار واحدة منها في مدينة إلى تدميرها وتدمير ما يحيط بها".
وفيرمي الذي ورد ذكر اسمه في الرسالة هو الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي، الذي اضطر للفرار للولايات المتحدة – مثل أينشتاين- من السرطان النازي والفاشي الذي استشرى في جسد أوربا، وهناك قرر أن يتابع أبحاثه في الفيزياء النووية، لكنه كان بحاجة لتمويل مادي كبير، وكان الحل الوحيد هو إقناع الحكومة الأمريكية بأن التجارب النووية ستؤدي في النهاية إلى اختراع سلاح رهيب يمكن استخدامه في الحروب، فكان أينشتاين أفضل شخص يمكنه القيام بالتسويق للفكرة فهو يتمتع بشهرة وسمعة عالمية، كما أن الوضع العالمي آنذاك وبداية الحرب العالمية الثانية ساعدا كثيرًا على اقتناع الإدارة بفكرة المشروع.
 \استمر العمل ليلًا ونهارًا على مدار عام كامل لبناء أول مفاعل نووي، وأخيرًا حلَّ صباح الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 1942، بعد أن قضى العلماء ليلة دون أن يغمض لهم جفن في مراجعة وتدقيق الحسابات، والتأكد من سلامة الأجهزة.
الأمر شديد الخطورة، إذ يقع الملعب وسط مدينة آهلة بالسكان، وأيُّ خطأ فقد تحدث كارثة إنسانية، ومع أن الحسابات تؤكد أن التفاعل في "المرجل الذري" سيكون بطيئًا، أيْ أنه لن يؤدي إلى حدوث انفجار، مثل الذي حدث عام 1986 في تشرنوبيل قرب كييف، إلا أن العلماء كانوا توَّاقين للحظة البدء باقتحام الجزء الذي لا يتجزأ بحسب فلسفة اليونانيين القدماء.
لم يكن فيرمي يستعجل الأمر، فكان أن قال للجميع: "حان وقت الفطور"؛ ليمنحهم فرصة للراحة بعد أن أعياهم التعب طوال الليل، وقبل البدء بالخطوة الحاسمة. توجّه الجميع لتناول فطورهم، ثم عادوا ليأخذ كلُّ واحد منهم مكانه، أعطى فيرمي الأوامر ببدء التجربة، وشخصت الأبصار إلى أجهزة القياس، خيَّم الصمت على المكان وجميع العاملين كأن على رؤوسهم الطير، لا ينبس أحدهم ببنت شفة، ومرت لحظات متعبة من الانتظار.
وفي الساعة الخامسة عشرة والدقيقة الخامسة والعشرين بتوقيت مدينة شيكاغو أُطلق "العفريت" من قمقمه، وسُمِح للنار الذرية بالاستمرار ثمانٍ وعشرون دقيقة، ثم أعطى فيرمي الأمر بإيقاف التفاعل المتسلسل.
رفع أحد المشاركين في التجربة سماعة الهاتف واتصل بالمسؤولين عن العملية ليقول لهم: إن "البحار الإيطالي قد وصل إلى العالم الجديد"، وهي العبارة السرية التي تم الاتفاق عليها مسبقًا، وتعنيأن فيرمي قد حرر طاقة نواة الذرة وأثبت إمكانية التحكم بها.
انتهت الأبحاث المتعلقة بصنع القنبلة الذرية – والتي كلفت وقتها ملياري دولار- أواسط عام 1945، لتظهر نتيجتها في صبيحة يوم السادس من أغسطس/آب في سماء هيروشيما كفطر ناري عملاق من اليورانيوم ابتلع عشرات الآلاف من الناس، وأصبح يومًا أسودَ في تاريخ البشرية، ليكون أحد أسوأ تطبيقات العلم.
التقيت أحد اليابانيين في جامعة حلب عام 1995، وكانت اليابان تحي الذكرى الخمسين للكارثة التي حلت بها عبر معرض للصور، فسألته: ما هو انطباع اليابانيين عن الحادثة بعد مرور خمسين سنة على هذا المأساة المروعة؟
فقال لي بلهجة عربية ثقيلة: "أريد أن أخبرك بأمر، لقد أعلنت الحكومة اليابانية استسلامها قبل إلقاء القنبلتين عليها ورفعت الرايات البيضاء، مما يعني أن الأمريكان كانوا يصرون على تفجير القنبلتين فوق رؤوسنا، مع أنهم كسبوا الحرب".

ولنجيب عن السؤال المطروح في العنوان نقول: بأن العلم سلاح ذو حدين، وأخلاقياتنا هي المسؤولة أولًا وأخيرًا عن استخدامه؛ فالشعب الفرنسي يعتمد في أكثر من 70% على الطاقة النووية لتوليد الطاقة الكهربائية المفيدة، لذلك لا عتب على السكين بل على مستخدمها.
ومهما ظهرت هنا أو هناك تطبيقات، قد تبدو للبعض "شريرة"، فإن الإنسان هو من يلام، وليس العلم أو التقانة نفسها، فعلينا أن نتذكر كم من خدمات جليلة القدر قد نفعنا بها العلم، وأن ندرك أهمية التربية الأخلاقية التي يجب أن نربي عليها أبناءنا في مسيرتهم العلمية.


شكرا على تعليقك ❤